حين يكون الحفظ بلا فهم… هل ننجح في تعليم القرآن؟

تعودنا منذ صغرنا على سماع آيات القرآن الكريم في بيوتنا، ثم حفظه في مدارسنا حتى أصبحنا حديث فخر  وفرحة في مجالس العائلة، كان أبي يقول أمام أعمامي بفخر: “ولدي قد حفظ سورة الفاتحة والإخلاص”، وكانت أمي، وسط خالاتي، تتبارى معهن: “ابني حفظ جزء عمّ في وقت قياسي”. 

لم يكن حفظ القرآن مجرد إنجاز نحتفل به، بل كان علامة على صلاح البيت، والبداية الصحيحة للغرس الصالح.


ثم توالت أعمارنا وكبرت عقولنا، ونضجت نظرتنا إلى القرآن الكريم،  فأدركنا أنه ليس كلاماً يُحفظ أو يُردّد، بل روح أحيت قلوبنا، ومنهاج حياة، ودستور إلهي، ونور للبشرية كلها نسترشد به جميعاً في ظلمة أيام الدنيا المتتابعة، ويثبت الله المؤمنون به على الحق في كل زمان ومكان.

وجرى بنا الزمن ولكن كلما ابتعدنا عن القرآن، نعود إليه بقلوب أكثر وعيًا، فنستحضر قول النبي ﷺ عن منزلة حافظ القرآن، حيث قال: «مَثَلُ الَّذِي يَقْرأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ، مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَعَاهَدُهُ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ، فَلَهُ أَجْرَانِ» [رواه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها]، وقال أيضًا: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» [رواه البخاري]. فنستشعر أن الخير يبدأ من هنا،  من ارتباطنا الحقيقي بهذا الكتاب العظيم.

وأتى الآن دورنا في توريث أولادنا ما نشأنا عليه من حب للقرآن ولكن تكمن المشكلة في تواجدهم في دولة غربية مختلفة عن بيئتنا العربية التي تربينا فيها، ولأن لكل مقاماً مقال، والزمن وصفات كل جيل مختلفة،  فيصبح من الطبيعي أن يتبادر إلى ذهنك سؤالاً بشكل متكرر عن الطريق المناسب الذي يتوجب عليك وضعه لأولادك لبداية صحيحة؟! 

بالتأكيد أنك لا تريد لأولادك أن يقومون بترديد آيات لا يعرفون معناها بسبب اختلاف الثقافة واللغات المحيطة بهم !
وبالتالي دعنا نفكر إلى ما أبعد من ذلك، وهو كيف نجعلهم في البداية يفهمون القرآن ويحبونه ويرتبطون به ولا يملون من جلسات الحفظ والترديد، مع مراعاة منهج يناسب أعمارهم وقدرة استيعابهم؟!

وبالتالي ينقلك ذلك إلى نقطة شكلت فارقاً عند الكثير وهي:

هل يجب أن يتم تعليم اللغة العربية للأطفال أولًا؟
أم نبدأ بتحفيظ القرآن الكريم للأطفال أولاً حتى لو لم يتقنه؟

لنطرق باب الإجابة عن هذا السؤال يستوجب في البداية معرفة السن المناسب للبدء في تعلم القرآن الكريم للأطفال أوتعلم اللغة العربية، ويتفق الخبراء والتربويون على أن السنوات الأولى  تُعدّ سنوات الزراعة والاهتمام بالنبتة فهي المرحلة الذهبية في حياة أطفالنا لتعلم اللغة واكتساب المهارات، وتكوين الحصيلة اللغوية والتفاعل مع البيئة المحيطة، ففي هذه المرحلة يكون عقل طفلك أكثر استعدادًا وذاكرته أكثر مرونة، وقابليته للاستيعاب أكثر بكثير من المراحل التالية.

 أما ما بعد ذلك فهي تعتبر سنوات الحصاد وجني ثمار ما زُرع طوال هذه المدة من حب للغة واستئناس للقرآن، مع ضرورة العمل على تقويم هذا الغرس وتوجيهه بلطف وثبات.

وهنا تبرز أهمية اللغة العربية في فهم القرآن الكريم، بوصفها الأساس الذي  يُبنى عليه فهم طفلك للقرآن الكريم، فإذا كانت المرحلة الأولى هي المرحلة الذهبية اللازمة لبناء مخزون لغوي سليم، فأن هذا المخزون هو المفتاح الأول وخطوة البداية في فهم معاني الآيات والتفاعل مع القصص الموجودة في القرآن الكريم، وتنفيذ الأوامر الألهية، فالقرآن الكريم نزل بلسان عربيّ مبين، ولايمكن الوصول إلى مدى عمقه وفهم كلماته إلا بفهم اللغة التي نزل بها، وكلما رسخت اللغة في فهم وعقل طفلك ازاداد تفاعله مع القرأن وارتباطه به لم يعد مقتصراً على الحفظ، والتلقين بل امتد إلى التفاعل والتدبر والعمل، وهذا يعتبر رأي الفريق الأول من السلف الصالح.

 

أما رأي الفريق الثاني، فيتلخص في قول ابن خلدون رحمه الله تعالى: “وصار القرآن أصل التّعليم الّذي يبنى عليه ما يحصل بعد من الملكات، وسبب ذلك أنّ التّعليم في الصّغر أشدّ رسوخًا وهو أصل لما بعده لأنّ السّابق الأوّل للقلوب كالأساس للملكات”. 

وتفسير ذلك الرأي يكمن في أن حفظ طفلك في الصغر يُغرس في الذاكرة حتى لو لم يكن يدرك الطفل المعاني ويستند في ذلك على أن الحفظ المبكر للقرآن الكريم هو أساساً قوياً ومتيناً تُبنى عليه المهارات اللغوية والعقلية لاحقاً ويُمهّد الطريق للفهم والتدبر في مرحلة متقدمة من العمر. 

ولعلك الآن وقعت في حيرة أكبر في ترجيح أحد المسارين على الآخر، ولذلك تتضح الحاجة الملحة إلى اعتماد منهجية مرنة، تقدم محتوى موازناً بين الفهم والحفظ. وتحقق الهدف الأسمى في  إيجاد طريق يوازن بين حفظ القرآن الكريم وفهم معانيه، وتعلق الطفل بكلام الله مع ترسيخ اللغة العربية. وبطريقة تناسب تواجد طفلك في مجتمع غير ناطق بالعربية.

ولذلك يمكنك أن تجرب استراتيجيات تعليم القرآن المتوازنة مع تعليم اللغة العربية للأطفال والدمج بين المسارين:

 

1- الربط بين الحفظ والفهم اللغوي

يمكن أن يبدأ الطفل بحفظ سور قصيرة، مع شرح بسيط لمعاني الكلمات والمفردات الجديدة واستخدام الخرائط الذهنية المناسبة لعمره الزمني ومدى استيعابه، ويدمج هذا المسار بين الحفظ وتكوين الحصيلة اللغوية في آنٍ واحد، ويجعل المعنى أقرب إلى قلب الطفل، ويسهل فهمه.

2. الاعتماد على القصص القرآني كأساس للتعلّم

القصص أسلوب فعّال لغرس المفاهيم. فعندما يتعرّف الطفل على قصة يوسف عليه السلام أو أصحاب الفيل ويتم تجسيدها وشرحها بأسلوب تفاعلي سهل، ثم يبدأ في حفظ الآيات المرتبطة بها، يكون الحفظ أعمق، وأكثر تفاعلًا وتأثيرًا.

3. التكرار التفاعلي بدلًا من التلقين

التكرار مهم للحفظ، لكن الأفضل أن يكون بأسلوب تفاعلي: من خلال الحوار، أو الرسم، أو حتى التمثيل البسيط للمعاني. هذا يساعد على ترسيخ الآية  في الذهن وربطها بالموقف والمعنى.

4. اختيار سور تناسب عمر الطفل وبيئته

ينبغي أن يبدأ الطفل بسور تحتوي على معانٍ قريبة من عالمه اليومي، مثل سور تتحدث عن النية، الصدق، أو الرحمة. هذا النوع من السور يُسهل عليه فهم المعنى وتطبيقه في حياته.

5. وجود معلم يجيد المزج بين التربية واللغة

من الضروري أن يكون المعلم قادرًا على شرح المعاني بلغة يفهمها الطفل ومناسبة لاستيعابه ولغته، مع امتلاك الأدوات التربوية التي تساعده على التعامل مع أطفال نشأوا في بيئات غير عربية، دون تعقيد أو أسلوب جامد عفى عليه الزمن.

وفي نهاية المطاف، نسعى بشكل متواصل إلى تهيئة الطريق المناسب والسهل لأطفالنا لتكوين علاقة حقيقية مع القرآن الكريم ، تبدأ من الكلمة وتنمو مع المعنى وتزهر في السلوك والعمل، ولذلك كلما بدأت مع طفلك في سن مبكر بأسلوب يناسب عقله وروحه، كلما استقر في نفسه حب القرآن وبقى مرجعيته الأولى والأخيرة ولهذا، فإن تعليم اللغة العربية، وتحفيظ القرآن الكريم للأطفال مع اختيار الطريقة المناسبة، والمعلّم المناسب، والبيئة المشجعة، ليست تفاصيل ثانوية، بل هي أساسات لا غنى عنها، لبداية صحيحة تبني مستقبلًا قرآنيًا نطمح إليه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *